سورة المائدة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)}
ثم قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم لعناهم} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في نقضهم الميثاق وجوه:
الأول: بتكذيب الرسل وقتل الأنبياء.
الثاني: بكتمانهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم.
الثالث: مجموع هذه الأمور.
المسألة الثانية: في تفسير اللعن وجوه:
الأول: قال عطاء: لعناهم أي أخر جناهم من رحمتنا.
الثاني: قال الحسن ومقاتل: مسخناهم حتى صاروا قردة وخنازير.
قال ابن عباس ضربنا الجزية عليهم. ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكساي (قسية) بتشديد الياء بغير ألف على وزن فعلية، والباقون بالألف والتخفيف، وفي قوله (قسية) وجهان:
أحدهما: أن تكون القسية بمعنى القاسية إلا أن القسي أبلغ من القاسي، كما يقال: قادر وقدير، وعالم وعليم، وشاهد وشهيد، فكما أن القدير أبلغ من القادر فكذلك القسي أبلغ من القاسي.
الثاني: أنه مأخوذ من قولهم: درهم قسي على وزن شقي، أي فاسد رديء.
قال صاحب الكشاف وهو أيضاً من القسوة لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين، والمغشوش فيه يبس وصلابة، وقرئ (قسية) بكسر القاف للاتباع.
المسألة الثانية: قال أصحابنا {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي جعلناها نائبة عن قبول الحق منصرفة عن الانقياد للدلائل. وقالت المعتزلة {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي أخبرنا عنها بأنها صارت قاسية كما يقال: فلان جعل فلاناً فاسقاً وعدلاً.
ثم أنه تعالى ذكر بعض ما هو من نتائج تلك القسوة فقال: {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} وهذا التحريف يحتمل التأويل الباطل، ويحتمل تغيير اللفظ، وقد بينا فيما تقدم أن الأول أولى لأن الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتى فيه تغيير اللفظ.
ثم قال تعالى: {وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} قال ابن عباس: تركوا نصيباً مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مّنْهُمْ} وفي الخائنة وجهان:
الأول: أن الخائنة بمعنى المصدر، ونظيره كثير، كالكافية والعافية، وقال تعالى: {فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} [الحاقة: 5] أي بالطغيان.
وقال: {لَّيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] أي كذب. وقال: {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغية} [الغاشية: 11] أي لغواً. وتقول العرب: سمعت راغية الإبل. وثاغية الشاء يعنون رغاءها وثغاءها.
وقال الزجاج: ويقال عافاه الله عافية، والثاني: أن يقال: الخائنة صفة، والمعنى: تطلع على فرقة خائنة أو نفس خائنة أو على فعلة ذات خيانة. وقيل: أراد الخائن، والهاء للمبالغة كعلامة ونسابة.
قال صاحب الكشاف وقرئ على خيانة منهم.
ثم قال تعالى: {إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ} وهم الذين آمنوا كعبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: يحتمل أن يكون هذا القليل من الذين بقوا على العهد ولم يخونوا فيه.
ثم قال: {فاعف عَنْهُمْ واصفح} وفيه قولان: الأول: أنه منسوخ بآية السيف، وذلك لأنه عفو وصفح عن الكفار، ولا شك أنه منسوخ بآية السيف.
والقول الثاني: أنه غير منسوخ وعلى هذا القول ففي الآية وجهان:
أحدهما: المعنى فاعف عن مذنبهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم، والثاني: أنا إذا حملنا القليل عن الكفار منهم الذين بقوا على الكفر فسرنا هذه الآية بأن المراد منها أمر الله رسوله بأن يعفو عنهم ويصفح عن صغائر زلاتهم ما داموا باقين على العهد، وهو قول أبي مسلم.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} وفيه وجهان:
الأول: قال ابن عباس: إذا عفوت فأنت محسن، وإذا كنت محسناً فقد أحبك الله.
والثاني: أن المراد بهؤلاء المحسنين هم المعنيون بقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ} وهم الذين نقضوا عهد الله، والقول الأول أولى لأن صرف قوله: {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} على القول الأول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه هو المأمور في هذه الآية بالعفو والصفح، وعلى القول الثاني إلى غير الرسول، ولا شك أن الأول أولى.


{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}
والمراد أن سبيل الصنارى مثل سبيل اليهود في نقض المواثيق من عند الله، وإنما قال: {وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى} ولم يقل: ومن النصارى، وذلك لأنهم إنما سموا أنفسهم بهذا الاسم ادعاء لنصرة الله تعالى، وهم الذين قالوا لعيسى {نَحْنُ أَنْصَارُ الله} [آل عمران: 52] فكان هذا الاسم في الحقيقة اسم مدح، فبيّن الله تعالى أنهم يدعون هذه الصفة ولكنهم ليسوا موصوفين بها عند الله تعالى، وقوله: {أَخَذْنَا ميثاقهم} أي مكتوب في الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتنكير {الحظ} في الآية يدل على أن المراد به حظ واحد، وهو الذي ذكرناه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإنما خص هذا الواحد بالذكر مع أنهم تركوا الكثير مما أمرهم الله تعالى به لأن هذا هو المعظم والمهم، وقوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء} أي ألصقنا العداوة والبغضاء بهم، يقال: أغرى فلان بفلان إذا ولع به كأنه ألصق به، ويقال لما التصق به الشيء: الغراء، وفي قوله: {بَيْنَهُمْ} وجهان:
أحدهما: بين اليهود والنصارى.
والثاني: بين فرق النصارى، فإن بعضهم يكفر بعضاً إلى يوم القيامة، ونظيره قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] وقوله: {وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} وعيد لهم.


{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)}
قوله تعالى: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ}.
وأعلم أنه تعالى لما حكى عن اليهود وعن النصارى نقضهم العهد وتركهم ما أمروا به، دعاهم عقيب ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: {يا أَهْلِ الكتاب} والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وإنما وحد الكتاب لأنه خرج مخرج الجنس، ثم وصف الرسول بأمرين: الأول: أنه يبين لهم كثيراً مما كانوا يخفون.
قال ابن عباس: أخفوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وأخفوا أمر الرجم، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن ذلك لهم، وهذا معجز لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأ كتاباً ولم يتعلم علماً من أحد، فلما أخبرهم بأسرار ما في كتابهم كان ذلك إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً.
والوصف الثاني للرسول: قوله: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} أي لا يظهر كثيراً مما تكتمونه أنتم، وإنما لم يظهره لأنه لا حاجة إلى إظهاره في الدين، والفائدة في ذكر ذلك أنهم يعلمون كون الرسول عالماً بكل ما يخفونه، فيصير ذلك داعياً لهم إلى ترك الإخفاء لئلا يفتضحوا.
ثم قال تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ وكتاب مُّبِينٌ} وفيه أقوال: الأول: أن المراد بالنور محمد، وبالكتاب القرآن، والثاني: أن المراد بالنور الإسلام، وبالكتاب القرآن.
الثالث: النور والكتاب هو القرآن، وهذا ضعيف لأن العطف يوجب المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه وتسمية محمد والإسلام والقرآن بالنور ظاهرة، لأن النور الظاهر هو الذي يتقوى به البصر على إدراك الأشياء الظاهرة، والنور الباطن أيضاً هو الذي تتقوى به البصيرة على إدراك الحقائق والمعقولات.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8